الثلاثاء، 18 فبراير 2020

دون كيشوت : 

الرجل الذي حارب طواحين الهواء هو بطل قصة رائعة لكاتب إسباني اسمه ميجيل دي سيرفانتس ( 1547 - 1616 م ) أَلْفَ القصة سنة 1605 م . لم يكن معروفا في الأوساط الادبية ولم يكن احد يتوقع له هذا النجاح الساحق ، بل كان مجرد جندي متقاعد يعاني من الضيق المادي و له بعض المحاولات غير الناضجة في كتابة التمثيليات و الروايات و النقد الأدبي . فألْفَ رائعته " العبقري النبيل دون كيشوت دي لاما نتشا " و تلفظ أحياناً ( دون كيخوتي ) وتعتبر الرواية من التراث الأدبي العالمي و هي الأكثر رواجاً من أعمال الأدب غير الديني وغير السياسي في كل الأوقات . رواية دون كيخوتة هي الأكثر شعبية في التاريخ و نالت هذه الرواية الزاخرة بأعمال البطولة مرتبة أفضل رواية من بين روايات أفضل " مئة كاتب في العالم . . . .

والقصة كما يلي : 

دون كيشوت هو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين - بورجوازي متوسط الحال يعيش في إحدى قرى إسبانيا في القرن السادس عشر , لم يتزوج , و من كثرة قراءاته كتب الفروسية كاد يفقد عقله و ينقطع ما بينه و بين الحياة الواقعية ثم يبلغ به الهوس حداً جعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين و ذلك بمحاكاتهم و السير على نهجهم حين يضربون في الأرض و يخرجوا لكي ينشروا العدل و ينصروا الضعفاء ، و يدافعوا عن الأرامل و اليتامى والمساكين . فأعدّ عدته للخروج بأن استخرج من ركن خفي بمنزله سلاحاً قديماً متآكلاً خلّفه له آباؤه فأصلح من أمره ما استطاع ، و أضفى على نفسه درعاً ، و لبس خوذة و حمل رمحاً وسيفاً و ركب حصاناً أعجف هزيلاً . و انطلق على هذه الهيئة شأن الفرسان السابقين الذين انقرضوا منذ أجيال .

ثم تذكر و هو سائر في طريقه فرحاً مزهواً أن الفارس الجوال لا بد له من تابع مخلص أمين ، فعمد إلى فلاح ساذج من أبناء بلدته و هو سانشو بانزا ففاوضه على أن يكون تابعاً له و حاملاً لشعاره ، و وعده بأن يجعله حاكماً على إحدى الجزر حين يفتح الله عليه ، و صدّقه سانشو و وضع خرجه على حماره و سار خلف سيده الجديد . . كان سانشو بانزا ضخم الجثة بعكس صاحبه دون كيخوتة الطويل الهزيل ، وتنشأ المفارقات المضحكة ابتداء بمنظر الرجلين ثم تستمر على طول هذه الرواية الكوميدية ذات الأسلوب الجميل و الخفيف . شخصية دون كيخوته من النماذج الإنسانية العليا و هي شخصية مغامرة حالمة تصدر عنها قرارات لا عقلانية ، أمّا رفيقه سانشوينثا بانزا فيمثل بدن الانسان ، هذا الرفيق الأصيل للروح .

معركة طواحين الهواء : 

و أول المعارك التي سعى هذا الفارس الوهمي إلى خوضها كانت ضد طواحين الهواء إذ توهم ( و لم يكن قد شاهد مثلها من قبل ! ) أنها شياطين ذات أذرع هائلة و اعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا ، فهاجمها غير مصغ الى صراخ تابعه وتحذيره و رشق فيها رمحه فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به و رمته أرضا فرضًت عظامه .

 معركة الأغنام : 

ثم تجيء بعد ذلك معركة الأغنام الشهيرة ؛ فلا يكاد دون كيشوت يبصر غبار قطيع من الأغنام يملأ الجو حتى يخيل إليه أنه زحف جيش جرار , فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر ليثبت فيها شجاعته و يخلد اسمه و تنجلي المعركة عن قتل عدد من الأغنام و عن سقوط دون كيشوت نفسه تحت وابل من أحجار الرعاة التي رموها بها فيفقد فيها بعض ضروسه .


سانشو التابع المظلوم : 

ولا يسلم سانشو المسكين خلال مغامرات سيده المزعوم من الأذى فالبرغم من أنه يحب السلم و يؤثر السكينة على القتال فإن المشكلة تجيء من أن دون كيشوت بوصفه فارساً لا يباح له إلا قتال الفرسان , فإذا جاء العدوان أو الاستفزاز من مدنيين ، فقد وجب أن يتكفل بهم سانشو ، و النتيجة الحتمية لذلك أن يتحمل سانشو اللكمات و الصفعات و الضرب بالعصي و الرجم بالحصى و التقاذف في الملاءات ! تماماً كما حدث مع فريق من التجار الذين احتكت ( بدون قصد ) فرس دون كيشوت بأفراسهم أثناء مسيرته ، و كما حدث مرة أخرى عندما رفض دون كيشوت أن يدفع أجر مبيتهما في فندق على الطريق إذ توهم أنّه بات ليلته في قلعة من قلاع الفرسان .
و تتوالى مغامرات دون كيشوت الذي يجرجر وراءه تابعه المغلوب على أمره و تتوالى هزائمه في كل المعارك التي خاضها و هو في كل مرة يدرك أنّه قد هزم بالفعل ، و لكنّه لا يفسر الأمر على الوجه الصحيح فيرجعه إلى جنونه هو ، إنما يفسره على أن خصومة من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد فمسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء و مسخوا الفرسان المحاربين إلى أغنام . . . .

الصراع بين المثالية و الواقعية : 

ثم نجد دون كيخوتي ، الذي جلد سانشو قبل قليل الاعتقاده أن معلمه لا يعرف أن دولوسينيا ليست فائقة الجمال . إنه يعرف أنها مجرد فتاة قروية سوقية ، لكنها أنبل من أن تبقى كذلك ، ينادي على سانشو : " تعال ، يكفي أن أراها أنا جميلة وشريفة . . . لقد رسمتها في مخيلتي كما أريدها أن تكون . " إننا لا نعرف هنا من يسخر من من ، ومن نحن لنشرع الفرق بين الحلم والحقيقة ؟ إننا الممثلون والجمهور معا في تمثيلية تحزيرية . هنا ينقض دون كيخوتة على عرض دمي متحركة و يقطع رأس الجنود - الدمى ، ليمنعهم من اعتقال عاشق و أميرته و هما هاربان معاً إلى أحضان الحرية . ثم يعوّض بعدئةٍ صاحب الدمى بسخاء لقاء " دين الشرف " هذا .

في الفصل الأخير نري التركيب النهائي : 

يتبرأ دون كيخوتي المحتضر من " أشباح الجهل السوداء " التي جاءته من القراءة " من كتبي البغيضة عن الفروسية " . ويندم على شيء واحد فقط و هو عدم امتلاكه الوقت الكافي لقراءة " كتب أخرى يمكن أن تنير الروح " هذه القصة قدمت الصراع الدائم بين الخير و الشر ۔ الحياه و الموت - الواقعية و المثاليه , و بين واقع عملي نفعي يفرض وجوده على البشر فدون كيشوت كان قصده الأصلي أن ينشر الحق و العدل والقيم النبيلة , لكنه سار في الطريق الخطأ و هو طريق الأوهام و انتهى عمله إلى لا شيء , و تحولت الأمور إلى الأسوأ . بينما تابعه سانشو بانزا يمثل الواقعية التي تطلب الفائدة الملموسة و النفع القريب . والرواية تبيّن كيف أنّ الإنسان يمكن أن يتصارع مع أوهام و خرافات , و هو مؤمن بها و في النهاية لا يكسب شيئاً , بل يخسر أشياء كثيرة منها حياته .

                      _ منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق